الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة نص تأبين فقيد المسرح المنصف السويسي ينفض الغبار على مسيرته ويستحضر آخر أمنياته

نشر في  11 نوفمبر 2016  (09:58)

بسم الله الرحمان الرحيم

"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا "

الله أكبر الله أكبر الله أكبر وإنا لله وإنا اليه راجعون

ما أصعب أن أقف اليوم موقفي هذا بينكم مسلما على روح صديق سلام الفراق لا لقاء بعده إلا في الأخرى إن شاء الله . وما أصعب أن يكون سلامي هذا سلام المتحدث تربكه حسرة الفقد ويشفق من أن تفحمه جحافل الذكريات تزدحم في مهجته كما تزدحم في ذاكرة العديد من الأصدقاء فيخشى أن يظل في قوله مقصرا مهما أفاض.

فقد شرفني السيد الوزير بأن طلب الي مشاركته تأبينك يا صديقي. لأنني كنت من رفاق الدرب أيام الشباب في باب سويقه ولأن تقاطع الدروب والمسارات جعلني شاهدا على العديد من المحطات المهمة في مسيرتك المسرحية.

وإن في هذا التشريف لمحنة هي محنة التحدث عنك إليك بضمير الغائب وفعل الماضي وأنت الذي ظل إلى آخر رمق يقاوم المرض الخبيث بالإعداد الحثيث للتعاون مع محمد كوكا في إخراج نص جديد للمنصف بن مراد على الرغم من أنك كنت تتوقع قرب المنية وتنتظرها بنفس مطمئنة هادئة وبالإستمرار بالفعل والإنجاز العنيد.

الله أكبر الله أكبر الله أكبر.

إننا نودع اليوم قامة فارعة ومسرحيا أصيلا متميزا ورائدا من رواد التأسيس الذين أسهموا في صنع النهضة المسرحية الحديثة التي انبلج فجرها في أواسط الستينات واشتد عودها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وأثمرت إبداعا راقيا بوأ مسرحنا التونسي مكانة مرموقة على الصعيدين العربي والدولي.

إننا نودع اليوم مجاهدا مسرحيا جريئا ومنشطا ثقافيا مثابرا ووجها من الوجوه اللامعة في جيل الفاعلين الثقافيين الذين تشبعوا منذ نعومة أظفارهم في الستينات بفكر الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي والحبيب بولعراس هذا الفكر الذي علمنا أن العمل في مجالات الإبداع الفني وإدارة الشأن الثقافي نضال ومغامرة ومخاطرة أو لا يكون والمنصف السويسي كان في طلائع هذا الجيل الذي اقتنع منذ البدء بأن التأسيس لثقافة تونس الحديثة  يقتضي بالضرورة تضحيات وإقداما وتمردا على المألوف والممجوج.

وإنه ليحضرني وأنا في موقفي هذا بينكم شريط تزدحم فيه صور المحطات والمواقف والذكريات حلوها ومرها. ولولا أن الكياسة تقتضي الإيجاز لأثقلت عليكم بسردها كلها لكنني سأكتفي بالإلماع إلماعا خاطفا وأختزل ما استطعت وأجهد أن أختار وكم يصعب الإختيار .

الله أكبر الله أكبر الله أكبر

أراك مسجى اليوم فيحضرني طيف المنصف شابا يافعا يحرز في جوان 1965 بتفوق وامتياز شهادة ختم الدروس في مركز الفن المسرحي ويحصل تبعا لذلك منحة فيتحول إلى فرنسا لإجراء تربص في سانت اتيان و ليون وباريس و فيلاربان ويعود وهو يتقد حماسا منبهرا بتجربة المسرح الوطني الشعبي وبالا مركزية المسرحية الفرنسية ومتأثرا بالغ التأثر بروجي بلنشون فيقدم في 63 على إخراج مسرحية برتولد براخت "السيد بنتيلا وخادمه ماتي" في إطار مركز الفن المسرحي وبعدها تبدأ رحلة السعي المثابر والمكابد إلى إرساء اللبنات الأولى للا مركزية فنية لما تزل آنذاك جنينا في صفاقس .يجد المنصف السويسي في الطاهر بو سمه وعبد السلام القلال واليين  شغوفين بالثقافة احتضناه وآزراه في تأسيس فرقة الكاف بالإعتماد على نواة طيبة من الهواة الموهوبين في فرقة السنابل .

وينجح المنصف السويسي في استقطاب العديد من الطاقات الشابة فتتلاقح المواهب والطاقات وتصبح فرقة الكاف خلية نحل يمارس في صلبها التكوين والإبداع في آن . وستكون هذه الفرقة، على تواضع إمكاناتها المادية حاضنة للعديد من أصحاب المشاريع المجددة تساعدهم على ابراز مواهبهم ومنها ينطلقون وولادة  للعديد من الفرق الجهوية المتفرغة التي ستنشأ في بنزرت وقفصه والقيروان.

نذكر المنصف السويسي وملحمة الكاف فنذكر أسماء كثيرة كانوا من بناة فرقة الكاف وأسماء كان لفرقة الكاف عليهم فضل كبير وأسماء لامعة كانت الكاف محطة هامة في مسيرتهم الفنية. نذكر الكاف فنذكر محمد بن عثمان وعامر بوثلجه والمنجي الورفلي ورفيقة درب المنصف خديجة السويسي وعيسى الحراث وناجية الورغي ونور الدين عزيزة ورؤوف بن يغلان وسعاد محاسن وعزيزة بولبيار وعبدالله رواشد ومنجي بن براهيم ولامين النهدي واحمد السنوسي وعبدالرزاق الزعزاع والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري والرجاء فرحات وغيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم.

نذكر ملحمة الكاف فنذكر أعمالا مسرحية متميزة ظلت راسخة في ذاكرتنا الوطنية مثل "الهاني بو درباله" باكورة أعماله في الكاف والمقتبسة عن "جورج دوندان" لموليار و"راشمون" و"حوكي وحرايري" و"الزير سالم" و"النسا في خطر" التي أخرجها بالإشتراك مع توفيق عبدالهادي و"مواقف صامتة" التي كانت ثمرة تربص أشرف عليه الفاضل الجعايبي و"كل فول لاهي في نواره" و"مكبث" و"أليف لا شيء عليه" التي كانت انتاجا مشتركا مع فرقة القيروان واخرجها بالتعاون مع عبدلله رواشد.

نذكر المنصف السويسي فنذكر اصراره على اخراج النصوص التونسية من ذلك تعاونه مع مصطفى الفارسي والتجاني زليلة في مسرحية "البيادق" ومع عمر بن سالم في مسرحية "عشتروت" ومع عزالدين المدني في "ثورة الزنج" و"الحلاج" ومع سمير العيادي في "عطشان يا صبايا" و"السندباد".

أعمال كثيرة متميزة وجريئة بعضها افتتح مهرجان الحمامات وصنع الحدث وبعضها أنتج في عسر وشظف وفي ظل ظروف عصيبة. بعضها ولد موؤودا وجلها قدم مئات المرات في إطار جولات كانت تجوب كل أنحاء الوطن وتفيض على دول الجوار في الأقطار الشقيقة. قرابة العشرية في الكاف كانت مرحلة مهمة في مسيرة المنصف السويسي لأنها كانت مرحلة الطموح والعطاء السخي رعت بذرة طيبة في بئة خصب وأرض معطاء فأصلت تقاليد حب المسرح في تلك الربوع وغرست شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء أشعت في الجهات وخارج حدود الوطن وظلت مثمرة الى يومنا هذا. وما تظاهرة 24 ساعة مسرح الا ثمرة زكية من ثمارها.

الله أكبر الله أكبر الله أكبر.

محطة الكاف ستتلوها محطات مهمة لا محالة. منها ما كان داخل الوطن في فرقة مدينة تونس ومنها ما كان خارج الوطن عندما توالت مواسم هجرته إلى الخليج العربي في قطر ثم في الكويت حيث تولى التدريس في المعهد الأعلى للفنون المسرحية وأسس "مسرح الطليعة" وأخرج العديد من الأعمال مثل مسرحية "السؤال" لمحيي الدين زنكح ومسرحية "القرار" المقتبسة عن براخت و"مدينة الؤلؤ" لفائق الحكيم قبل أن يتحول إلى الإمارات خبيرا لدى وزارة الإعلام .

لكن المحطة الأهم في مسيرة المنصف السويسي بعد محطة الكاف كانت بلا منازع محطة تأسيس المسرح الوطني في 1983 وكان يطمح إلى جعله هيكلا متعدد الإختصاصات في مجالات التنشيط المسرحي بمفهومه الشامل ففي صلبه تأسست مجلة الفضاءات المسرحية ومن رحمه انبثقت أيام قرطاج المسرحية.

محطة المسرح الوطني كانت تتويجا لمسيرة منشط ظل حاملا لهاجس التأسيس ووجد لدى الأستاذ البشير بن سلامة وزير الثقافة آنذاك تجاوبا وسندا قويا.

بعد مغادرته للمسرح الوطني ستكون له عودة وجيزة الى الكاف في منتصف التسعينات العالم العربي وشائج فسنراه يسهم اسهاما نشيطا في بناء اتحاد المسرحيين العرب ويخرج عملا عربيا مشتركا هو مسرحية "وا قدساه " في نطاق الإتحاد العام للفنانين العرب الذي كان نائبا لرئيسه كما أخرج مسرحية "النمرود" لحاكم الشارقة. لكن هواجس الساحة الوطنية ستظل حاضرة في وجدانه فنراه يحاول العمل في القطاع الخاص وحتى في جامعة مسرح الهواة .

الله أكبر الله أكبر الله أكبر

لا يمكنني أن أختم حديثي هذا عن المنصف السويسي دون أن أذكر تلك الجلسات المطولة والمناقشات الصاخبة في قهوة الحاج بباب سويقه ثم في مقهى باريس والأونيفار وفي مكتب الزبيرالتركي عندما كان مستشارا لدى الوزير وفي بيته. جلسات تفكير في مستقبل المسرح كانت تجمع ثتة من الشباب الطموح وحدث أن انضم الطيب الصديقي إليها وشارك فيها وكان المنصف فيها بركانا من الحماس. حماس واندفاع يلامسان أحيانا حدود القول العنيف ذلك أن المنصف كان يحب فنه بعنف ويندفع في انجاز مشاريعه وفي الدفاع عنها اندفاعا يلامس حدود التهور والمغامرة الحميدة .

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فراديس جنانه و رزق أهله وذويه والأسرة المسرحية والثقافية جميل الصبر وإنا لله وإنا إليه راجعون

"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم

رؤوف الباسطي